تِنْـذَكِرْ ولا تِنْعاد !!!

أبدأ بارتداء الشال الخمري الساتان الذي تذكرني نقوشه وألوانه ببساط الفجٍٍّه التقليدي؛ ألفه على "بَتّتين" وأستمع في أثناء محاولة تثبيته بالدبابيس إلى نيكولا على ردايو روتانا جوردان وهو يقرأ أبراج اليوم؛ أتابع برجي قليلا ثم أستمع جيدا إلى برجها: يقول لك برجك: احذر من مهامك الدقيقة!!! أبتسم وأقول: "فعلا مهمة دقيقة كيف عرف هالزّنخ؟؟"

أتجه إلى الردايو لأغلقه والسيد نيكولا "القرفان جدا" يستضيف متنبئة فلكية عندما بدأت بالحديث أثارت استغرابي؛ "بتحكي أردني كتير منيح؛ هاي شكلها محليّة مش شي ثاني"

أرتدي الجاكت الصوف الخمري الذي جئت به من عمان قبل أن أتركها مباشرة؛ قررت أن أرتديه اليوم كمحاولة لتغيير "اللوك" وذلك في سبيل البحث عن تجديد بسبب الملل الذي أنا فيه؛ أرش قليلا من زجاجة "النينا ريتشي" ذات الـ 50 مللي ثم أخرج من البيت

أكلمها قائلة:" يلاً بسرعة وينك؟ في عمّو قَزًّزّني هون؛ مطولة؟؟"

- لأ هايني صرت عالباب

أنهي الإجراءات؛ ونخرج سويا لأقول لها: "أنا جوعانه موت"- يالله شو صايره مفجوعه!!!

نتفق بعد شد وجذب على تأجيل مشروع الإفطار بعد انتهاء المهمة الدقيقة؛ نركب الباص ونكمل الطريق مشيا إلى المستشفى ونحن نتحدث طول الطريق؛ ثم ندخل إلى القسم المخصص للمهمة الدقيقة: التبرع بالدم

لن أطيل في وصف الإجراءات لأنها غير مهمة؛ خرجنا بعد أن أدت المهمة الدقيقة؛ وصعدنا إلى الموقف مشيا ونحن نستهبل كالعادة

نصل الموقف؛ وننتظر الباص؛ لا نركب بسبب التزاحم؛ أقول أنا "طيب شو رأيك نوخذ تاكسي؟ إذا تعبانه بنوخذ واحد"

-لأ عادي هَسًه بصير منيحه

يأتي الباص الثاني؛ ولا نركب أيضا وننتظر ثم فجأة:

- ....؛ أنا دايخه!!!

- شو يعني دايخه؟؟ شو حاسه؟

- حاسه حالي مش قادرة أوقف!!!

كنا قد تحركنا قريبا من باب المستشفى؛ في هذه الأثناء مر بنا شاب أنيق يرتدي ربطة عنق حمراء؛ نطيل النظر إلى بعضنا ويكمل طريقه ليقف قريبا من كرسي الانتظار الكبير؛ كنت قد لمحت فراغا على الكرسي بجانب سيدة ترتدي معطفا شتويا أسود؛ أتحرك لأجلسها على الكرسي؛ تشدني لأجلس بجانبها؛ صارت هي بجانب السيدة ذات المعطف؛ وصار الشاب الذي تحدثت عنه سابقا أمامنا ولكن إلى اليسار منا قليلا؛ تعيد :

-أنا دايخه

-طيب اهدي شوي؛ خلينا ناخذ تاكسي

-أه

بعد قليل؛ تحدثني بنبرة أقرب الى البكاء:

-...؛ أنا دايخه جد أنا دايخه؛ أنا مش شايفه قدامي!!

ألتفت لأراها بعينين شبه مغمضتين!! وهنا بدأ ذعري الحقيقي؛ ولكنه ذعر داخلي لا يطفو على السطح؛ تتدخل السيدة التي إلى جانبي فتقول:"مالها؟"

- اتبرعت بدم

الشاب ذو الربطة:" ارفعيلها راسها؛ خلي الدم يوصل لفوق"؛ ويمثل لي الحركة برأسه ويده على ذقنه

لا لأذكر ماذا حدث بعده بالضبط؛ كل ما أتذكره أني لم أكن أعرف ماذا أفعل؛ كنت في حالة صدمة أكيد؛ لم أبك ولم أتصرف بهستيريا حين حدث ما حدث؛ كنت فقط "خارج الوضع" كمن ينظر إلى شيء لا يخصه من الخارج

كانت إلى جانبي وأنا أنظر إلى الطريق محاولة أن أستجمع شتات نفسي؛ وإذا بالسيدة تقول: "يا ساتر!!" التفت فوجدتها قد مالت إلى الخلف مغمضة العينين؛ وتلتقطها السيدة في حركة سريعة وهي تقول:" اسم الله!!" لو لم تفعل ذلك "لـطرق راسها" بحديدة الكرسي الكبير!!!

تمددها السيدة وتأتي فتاة أخرى لا أعرف من أين؛ ويتدخل الشاب؛ باختصار في ثوان تحولنا إلى فرجة!!! ضع في اعتبارك أننا على باب مستشفى حكومي للتوليد؛ نقلت إليه حديثا عيادات مستشفى آخر!!!

السيدة ترطب وجهها بالماء؛ وفتاة أخرى تساعدها؛ تقول لي:

-خديها عالطوارئ

-طيب شو أعمل؛ احكي لي شو أعمل مش عارفه شو أسوي!! هذه أنا طبعا!!!

-خدي تاكسي؛ أو احكي للأمن عالباب يساعدك

أنظر إليها؛ مغمى عليها وأفكر في نفسي: "ماذا لو ماتت؟ - في نفسي أقول:" بلا هبل؛ ما حدش بيموت لأنه امْغوطِنْ!! وبعدين هاي مش أول مره اتْغيٍّب فيها؛ هسه بتصحى"

أقول للسيدة؛ "خليكي معاها" هسه بروح عالأمن وبشوف

أقفز قفزا وسط الحشد المتجمهر؛ أصل إلى الباب القريب؛ الأمن عبارة عن رجل ذي كرش؛ جالس ومتربع على كرسي و يضع قدما على قدم

أشرح له الوضع في كلمات سريعة؛ وأطلب منه أن يأتي ليساعدني

-يعني شو بتستني مني أعمل؟

-طيب عالأقل شيلها عالمستشفى !! ساعدني!!

-لأ يا عمو هاي بنت ؟ كيف بدك ياني أشيلها؟ حتى حرام!!!

أقول في نفسي " هسّه وقت حرامك وحلالك؟"؛ ينصحني أن أطلب لها تاكسي وأنقلها إلى الطوارئ

أرجع مرة أخرى لأجد الجمهرة على حالها؛ ولكنها أفاقت أخيرا؛ امرأة جالسة قبالتنا ومعها طفلها الرضيع تشير إلي؛ "الشنته الشنته" أتناولها:؛ ما زالت متمددة وإحداهن غطتها بشالها الصوفي؛ يسألونني عن الأمن؛ فأرد بما قاله

الشاب ذو الربطة؛ يقول لي: "خلص خذي تاكسي؛ خذيها عالطوارئ"؛ رجل لا أعرفه "يوقف لنا " تاكسي شارحا الوضع؛ الآن بدأت تتحامل على نفسها؛ تستند علي واقفة؛ يقول لي الشاب: "اروح معكو؟"؛ جوابي الغريب" "بدك تيجي تعال!!!"

يركب معنا من الأمام ويشرح للتاكسي الوضع؛ السائق: "طيب وين آخذكم؟"

بعد نقاش أقول له خذنا على مستشفى ... ( مستشفى آخر في اربد)

تضع رأسها في حضني فيقول لي الشاب: "ارفعي راسها ارفعي راسها" أرفعه؛ وأشربها من قنينة الماء التي لا أعرف من أين جاءت

السيدة ذات المعطف توقف التاكسي؛ يقول الشاب:" يمكن نسيتي البالطو؟" ألتفت فأجدها ترتديه؛ تسقط السيدة "نصف دينار معدني" في يدي لتقول لي: "هاي وقعت منكو" أرد عليها ضاحكة: " ييييه مبروكه عليكي!!!"

في الطريق؛ يتدخل السائق الشاب بالنصائح؛ " هاظ لازم كنتي توكلي الصبح؛ غلط تتبرعي بالدم وانتي صايمه"

الشاب ذو الربطة :" بس مش مشكلة: التبرع بالدم منيح؛ بيريّح من الصداع وبييريّح النفسية؛ أنا عملت حجامه وريحتني كثير"

ألتفت إليها فأجدها تضحك في إنهاك؛ أشعر براحة " أعرف أنها تحسنت قليلا"

الشاب يسألني:

-انتي درستي باليرموك؟

-آه

-أنا شايفك قبل هيك؛ بالعلوم

-ليش حضرتك شو دارس؟

-أنا أستاذ رياضيات

-أهلا وسهلا

عند اقترابنا من المول؛ أقول لها: تروحي عالمستشفى ولا خلص؟ تروحي عند خالتي؟

-خلص ؛ رحت عالمستشفى قبل هيك وما عملولي شي زيادة

-طيب خلاص

-سواق التاكسي: شو؟

-هي: ودينا على بيت أختي قريب من هون

أنا : اطلع هيك هيك؛ أصف له الطريق

السواق: انتي عارفه شو رح يعملولك بالمستشفى؟ بس رح يحطولك مغذي مش أكثر

ترد هي: بعرف؛ بعرف؛ ما أنا غيّبت قبل هيك

أخرج الدينار لأحاسب التاكسي؛ ولكن الشاب يحاسب في إصرار؛ وننزل عند العمارة ويهبط هو معنا

يقول لنا: "أطلع معاكو؟"

- أرد: " لا خلاص؛ هاي البيت"

نتعرف على بعضنا وكالعادة يكون قد من دفعتي في تخصص آخر ولكن يذكرني؛ أما أنا فلا أذكره بالطبع!!!

-نتعرف على بعضنا بالأسماء؛ وأشكره مجددا ونصعد إلى بيت خالتي

بعد ثلاث ساعات؛ نغادر بيت خالتي وهي تستند علي؛ في التاكسي الذي يقلنا إلى المنزل؛ أقول لها: "رح أكتب اللي صار اليوم في تدوينه... ممكن؟"

-تبتسم بزاوية فمها قليلا و تقول: اكتبي اللي بدك ياه بس بِِدي أروح ؛ كتير تعبانه"

تِنْذَكِرْ ولا تِنْعاد فعلا!!!

ملاحظة مهمة: إذا أردت آنستي أن تتبرعي بالدم؛ فلا ترتدي "تَنّورة" تخيلي لو أغمي عليك في الشارع لا سمح الله!!!

ملاحظة ثانية: إذا أغمي عليك لا تفكري أن تطلبي المساعدة من رجل الأمن؛ "بتعرفي كيف حرام"!!!

الملاحظة الأهم: لسا الدنيا بخير رغم كل شي الحمد لله؛ فعلا "إن خِْليَت بٍليَت" كما تقول جدتي؛ وأشكر السيدة ذات المعطف وأعتذر منها بخجل؛ لأني عندما رأيتها أول مرة؛ لم يعجبني وجهها ولا شكلها بتاتا- سبحان الله لولاها لا أعرف ماذا كان سيحدث!!! ولا كيف كنت سأتصرف؛ أعتذر مجددا لهذه السيدة المجهولة وأكرر أسفي بشدة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الفجٍٍّه: بساط تقليدي تكون الأشكال فيه هندسية ومتداخلة

بَتّتين: لفتين

:عمّو قَزًّزّني: رجل كبير في السن يرتدي شماغا ودشداش؛ "قرّفني" وهو بيطّلع!!

امْغوطِنْ أو امْغيٍب : مغمى عليه بالعربي الفصيح