نشرت أول مرة على مدونة كتب.
عندما قرأت رواية الطيب صالح موسم الهجرة إلى الشمال لأول مرة؛ لا أنكر بأنها صدمتني وبهرتني في آن معاً..
كنت قد سمعت كثيرا عن هذه الرواية؛ كما وشاهدت الفيلم الخاص برواية الطيب الأخرى –عرس الزين؛ والذي كان مخرجه كويتيا أو عراقيا لا أذكر بالضبط..
موسم الهجرة إلى الشمال في عنوانها قد يتلخص مضمون الرواية كلها؛ عن الهجرة التي غالباً ما تكون إلى بلاد أكثر دفئا لا إلى بلاد “تموت من البرد حيتانها” كما يأتي على لسان بطل الرواية..
الرواية التي قد يبدو للوهلة الأولى “محمود سعيد” بطلها بلا منازع؛ يتكشّف لك حين توغل في صفحاتها أكثر أن الشخوص والأماكن والعادات هم أبطال أيضا؛ ولا يجوز أن نغفل دور “الرّاوي” الذي لا اسم لـه؛ ولربما كان ذلك مقصودا؛ فالراوي مجهول الاسم ما يزال يمضي مستكشفا سيرة مصطفى سعيد؛ الذي ترك في أوروبا أمجاداً بعد حياة حافلة انتهت نهاية غامضة؛ وعاد إلى السودان ليمارس حياة أبسط ما يمكن أن يطلق عليها “حياة تقليدية”، كلما تقدم الراوي في هذا الاستكشاف ؛ كلما تبدى لنا شبه الراوي بمصطفى سعيد؛ حتى أن أرملة الأخير وقعت في غرامه للتماهي الكبير بينه وبين زوجها – كلاهما تعلم في بلاد الغربة؛ كلاهما له ذات الفكر تقريبا؛ كلاهما رأى بلاده على واقعها؛ بلدا تطورت فيها الآلات والمباني؛ ولكن لم يتغير شيء في ثقافة الناس ورؤيتهم للأمور؛ كل شيء ما زال على حاله.
مصطفى سعيد؛ كان منذ طفولته مختلفا؛ على حد وصفه لنفسه “حرا”؛ كان نابها أبهر الانجليز في بلده وفي بلادهم؛ لم تتسع له السودان ولا القاهرة؛ فشد الرحال إلى انجلترا؛ كان يتحدث الانجليزية كأهلها؛ كان “انجليزيا أسـود”؛ وكان شرقيا؛ فبهرت به بنات الانجليز؛ كان زير نساء من الطراز الأول؛ أغوى الكثيرات ودمر حياتهن؛ اتخذ من الجنس وسيلة ينتصر بها على مستعمر أرضه الأبيض؛ إلى جانب ذكائه الحاد وطلاقة لسانه وبلادة شعوره؛ قالت له إحداهن يوما “أنت لست إنسانا؛ أنت آلة صمّاء”. ثم جاءت “جين مورس” وهنا انقلبت حياته رأسا على عقب..
“هل قتلت جين مورس”
“نعم”
“قتلتها عمدا؟”
“نعم”
طاردها ثلاثة أعوام؛ لم ينلها وحولت حياته إلى جحيم بعلاقاتها المتعددة؛ وفي النهاية حصل عليها بثمن باهظ؛ كان الثمن هو موتها قتلها بخنجره
“لم تكن كراهية؛ كان حبا عجز أن يعبر عن نفسه؛ أحببتها بطريقة معوجة وهي أيضا”
حكموا عليه بسبع سنوات؛ وتشرد بعدها في بلاد الله الواسعة ثم عاد إلى بلده واختار قرية الراوي ليستقر بها؛ ويعيش حياة عادية ويحاول أن ينسى؛ قال له القاضي في المحكمة:
“إنك يا مستر مصطفى سعيد؛رغم تفوقك العلمي؛ رجل غبي. إن في تكوينك الروحي بقعة مظلمة، لذلك فإنك قد بددت أنبل طاقة يمنحها الله للناس:طاقة الحب”
كان “مصطفى سعيد رجلا فاسدا؛ أفسد حتى زوجته السودانية التي قتلت نفسها وزوجها الجديد حين أجبروها على الزواج منه غصبا؛ لم تستطع أن تعود أبدا إلى نمط حياتها قبله؛ ولا أن تتعود على رجل آخر “عادي”؛..
انتهى “غرقا” لربما لكنه ترك الراوي بعده في حيرة وقد خرّب عليه حياته أيضا..
موسم الهجرة إلى الشمال؛ تقدم لك وصفا فريدا للسودان وتاريخه وتفاصيل الحياة اليومية في ريفه وعلى ضفاف “النيل العظيم”؛ تأسرك بتفاصيل الحياة البسيطة لأناس بسطاء؛ تجمعهم روحانية وشهوانية وحب للحياة في آن معا.
اللغة ميزة أخرى في هذه الرواية؛ لغة عربية فصحى؛ قوية وجزلة في ذات الوقت؛ ترسم لك صورا سحرية لحياة واقعية؛ فتزيد من استمتاعك بالقراءة.
تختم الرواية بمحاولة الراوي الانتحار في النهر كما ولدته أمه؛ لربما كان هذا رمزا إلى التحرر والانعتاق؛ ربما كان رغبة في ممارسة طقوس يتطهر بها الراوي من كل ما يتعلق بهذه البلد التي ما زالت ترسف في أغلال الماضي؛ لربما كانت رغبة جديدة في الحياة أو أكثر..
رواية تستحق أن تقرأ وتفك رموزها؛ تقدم لك السهل الممتنع؛ وتكتشف بروحك أن لا شيء قد تغيّر؛ فنحن ما نزال نحن رغم كل شيء.
- تفاصيل أكثر عن الرواية :
• عنوان الرواية: موسم الهجرة إلى الشمال
• الكاتب: الطيب صالح
• الناشر: دار العودة – بيروت
• الطبعة: 13 لعام 1981م
• عدد الصفحات :171 صفحة
• لشراء الرواية عبر الإنترنت : النيل والفرات